بيت العنكبوت : حديث سحر النبي صلى الله عليه وسلم بين فهم العلماء و جهالات رشيد أيلال




الرسول يسحر فيهذي

قال أيلال تحت عنوان ( الرسول يسحر فيهذي) : ورد في صحيح البخاري  تحت رقم 5433 حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَت:" سُحِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِنَّهُ لَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَمَا فَعَلَهُ حَتَّى إِذَا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ عِنْدِي دَعَا اللَّهَ وَدَعَاهُ ثُمَّ قَالَ أَشَعَرْتِ يَا عَائِشَةُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ قُلْتُ وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ جَاءَنِي رَجُلَانِ فَجَلَسَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي وَالْآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ مَا وَجَعُ الرَّجُلِ قَالَ مَطْبُوبٌ قَالَ وَمَنْ طَبَّهُ قَالَ لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ الْيَهُودِيُّ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ قَالَ فِيمَا ذَا قَالَ فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ وَجُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ قَالَ فَأَيْنَ هُوَ قَالَ فِي بِئْرِ ذِي أَرْوَانَ قَالَ فَذَهَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى الْبِئْرِ فَنَظَرَ إِلَيْهَا وَعَلَيْهَا نَخْلٌ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى عَائِشَةَ فَقَالَ وَاللَّهِ لَكَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الْحِنَّاءِ وَلَكَأَنَّ نَخْلَهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَأَخْرَجْتَهُ قَالَ لَا أَمَّا أَنَا فَقَدْ عَافَانِيَ اللَّهُ وَشَفَانِي وَخَشِيتُ أَنْ أُثَوِّرَ عَلَى النَّاسِ مِنْهُ شَرًّا وَأَمَرَ بِهَا فَدُفِنَتْ".
وقد عقب ابن حجر العسقلاني في فتح الباري تعليقا على هذا الحديث بقوله:" ثم ذكر المصنف في الباب سبعة وعشرين حديثا الأول حديث عائشة قالت : " سحر النبي صلى الله عليه وسلم " الحديث ، وسيأتي شرحه في كتاب الطب ، ووجه إيراده هنا من جهة أن السحر إنما يتم باستعانة الشياطين على ذلك ، وسيأتي إيضاح ذلك هناك ، وقد أشكل ذلك على بعض الشراح ." بمعنى أن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس من المخلصين ، فقد قال تعالى : ( قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)(الحجر:40)
وهاته إساءة بالغة لنبينا عليه أفضل الصلوات وأزكى التسليم. و بالإضافة الى هذه الإساءة فهذا الحديث يخالف جملة وتفصيلا عصمة الرسول وحفظ الله له ، كما يخالف قوله تعالى : نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَىٰ إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا ( الاسراء:47) فالله ينفي عن نبيه أنه سحر ، ويقول عمن يقول بأن الرسول مسحور بأنه ظالم ، بل وصلت بهؤلاء وقاحتهم أن اعتقدوا أن رسول الله كان يخيل إليه أنه يقوم بالعمل وهو لم يقم به ، فهو كان يتوهم –حاشاه- أنه يجامع نساءه رغم أنه لم يقم بذلك ، وذلك من الهذيان ، وهي إساءة من الإساءات التي لم يتورع من ألف هذا الكتاب عن تدوينها فيه ، لكن مادام هذا الحديث في صحيح البخاري فلا يمكن تكذيبه ، وأن من يعتقد بما في القرآن وينفي عن الرسول بأنه سحر ، وينكر هذا الحديث المسيء لنبينا فهو كافر بفتوى شيوخ الوهابية ، كما أوردنا نقلا عنهم في هذا الكتاب."[1]

أولا : تخريج الحديث
الحديث لم يتفرد به البخاري [2]حتى يزعم أيلال أنه من تأليفات كاتب الصحيح ! فقد أخرجه جمع من الأئمة قبل البخاري و بعده منهم :
الحميدي في مسنده  رقم 261 و ابن ابي شيبة في مصنفه رقم 23519  واسحق بن راهويه في مسنده  رقم 737 ، و احمد في المسند رقم 24237-24300-24347-24348-24650 ، و مسلم في صحيحه رقم 2189 ، و النسائي في السنن الكبرى  7569 ، وابن ابي يعلى في مسنده  رقم 4882 ، و ابن حبان في صحيحه  رقم 6583-6584 ، و الطحاوي في شرح مشكل الأثار رقم 5934 ،و البيهقي في السنن الكبرى  رقم 16494 ، و السنن الصغرى رقم 3130

ثانيا : هذا الحديث طعن فيه المعتزلة و قالوا : أن ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سحر باطل لا يصح ، بل هو من وضع الملحدين ! و ممن ذهب الى ذلك أبو بكر الجصاص في أحكام القرآن .[3]
فالتقف هذه الدعوى دعاة العقلانية في العصر الحاضر كأبي رية و احمد صبحي منصور و زكريا أوزون و غيرهم فعلت أصواتهم طعنا في السنة و تشابهت أقوالهم ، غير أن تلميذهم أيلال فاقهم جرأة في الطعن و التكذيب و سفالة في التعبير !
ثالثا : أين قال العلماء أن النبي صلى الله عليه وسلم أصابه الهذيان ؟ و من قال بهذا ؟ وهذا الذي قاله كذب صراح  على العلماء . فالهذيان هو: "كلام غير معقول مثل كلام المبرسم والمعتوه" [4] فأين الهذيان في تخيل شيء حصل وهو لم يحصل!
ألم تقل إنك تسلّم بصحة القرآن؟ فإننا نجد في الذكر الحكيم ذكر السحر و أثره و ضرره و كفر فاعله ، و أنه يفرق بين المرء و زوجه ، و أنه لا يضر إلا بإذن الله و قضائه و قدره ككل شر و ضر في هذا الوجود . فإذا أنكر أيلال إخراج البخاري و غيره لهذا الحديث لأنه ينكر السحر و حقيقته ، فمشكلته مع القرآن لا مع البخاري !
و إن كان ينكر أن يكون له تأثير على النبي صلى الله عليه وسلم و لو بمجرد تخيله في شأن أمر دنيوي كالجماع  فقد أخبر القرآن عن موسى أنه خيل له من سحر سحرة فرعون أن الحبال و العصي تسعى  قال الله تعالى فيه: ﴿قَا لوا يَا موسَى إِ ما أَن تلقي وَإِ ما أَن  تكونَ  أولَ مَنْ أَلْقَى * قَالَ بَلْ أَلْقوا فَإِذَا حبالهم وَعِصِيهمْ يخَيل إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَ نهَا تَسْعى * فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَة موسَى * قلْنَا لَا تَخَفْ إِ نكَ أَنتَ ا لأَعْلَى [5]  . فعلى كلام أيلال  فإن قوله ) : يخيل إليه من سحرهم(  أنه هذيان!  فما جوابه ؟
و قد جاء في القرآن الكريم أن الأنبياء و الرسل بشر ..{ قل انما أنا بشر مثلكم } و يسألون الله الشفاء { و إذا مرضت فهو يشفين } و يصيبهم ما يصيب بقية البشر من الألام و الأسقام و الأمراض و يتعرضون للأذى من أعدائهم من الجن و الإنس { إني مسني الشيطان بنصب و عذاب} و قد قتل اليهود أنبياءهم و آذوهم { و قتلهم الأنبياء}{ أوكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم و فريقا تقتلون }و قال موسى { لم تؤذونني و قد تعلمون أني رسول الله اليكم }. و كل هذا لا دخل له في عصمتهم عن الخطأ في تبليغ الرسالة ، و العصمة من الفواحش و المعاصي و ليس للشيطان عليهم سبيل من جهة الإغواء و الإضلال .
رابع : إدعاؤه تكفير الوهابية لمنكر حديث السحر !
ما دخل الوهابية بما قرره العلماء من تصحيح الحديث أو تضعيفه أو شرحه قبل أن يولد الشيخ محمد بن عبد الوهاب بقرون ؟ ثم من أفتى بكفر من نفى عن النبي صلى الله عليه وسلم السحر ؟ و لو صح تكفير من أنكر حديث سحر النبي صلى الله عليه وسلم لكفر العلماء علماء كبار جهابذة كأبي بكر الجصاص و الزمخشري  و محمد عبده و رشيد رضا و القاسمي ، لكن هذا لم يقع فعلم أن هذا مما لا يكفر صاحبه .
خامسا : جواب العلماء على هذا الإعتراض .
أن ما تعرض له النبي - صلى الله عليه وسلم - من سحر، هو مرض من الأمراض، وعارض من العلل، وهذه تجوز على الأنبياء كغيرهم من البشر، وهي مما لا ينكر ولا يقدح في النبوة، ولا يخل بالرسالة أو الوحي، والله سبحانه إنما عصم نبيه - صلى الله عليه وسلم - مما يحول بينه وبين الرسالة وتبليغها، وعصمه من القتل، دون العوارض التي تعرض للبدن. و أن السحر إنما تسلط على ظاهر النبي - صلى الله عليه وسلم - وجوارحه، لا على قلبه واعتقاده وعقله، ومعنى الآية: عصمة القلب والإيمان، دون عصمة الجسد عما يرد عليه من الحوادث الدنيوية.

قال الإمام المازري [6] : أهل السنة وجمهور العلماء من الأمة مجمعون على إثبات السحر وأن له حقيقة كحقائق غيره من الأشياء الثابتة خلافا لمن أنكره ونفى حقيقته وأضاف ما يتفق منه إلى خيالات باطلة لا حقائق لها، وقد ذكره الله سبحانه في كتابه العزيز وذكر أنه مما يتعلم، وذكر ما يشير إلى أنه مما يكفر به وأنه يفرق به بين المرء وزوجه وهذا كله مما لا يمكن أن يكون فيما لا حقيقة له وكيف يتعلم ما لا حقيقة له.
وهذا الحديث أيضا فيه إثباته وأنه أشياء دفنت وأخرجت وهذا كله يبطل ما قالوه. والذي يعرف بالعقل من هذا أن إحالة كونه من الحقائق محال وغير مستنكر في العقل أن يكون الباري سبحانه يخرق العادات عند النطق بكلام ملفق أو تركيب أجسام أو المزج بين قوى على ترتيب مالا يعرفه إلا الساحر ومن شاهد بعض الأجسام منها قتالة كالسموم ومنها مسقمة كالأدوية الحادة، ومنها مصحة كالأدوية المضادة للمرض لم يبعد في عقله أن ينفرد الساحر بعلم قوى قتالة أو كلام مهلك أو مؤد إلى التفرقة.
وقد أنكر بعض المبتدعة هذا الحديث من طريق ثابتة ، وزعموا أنه يحط منصب النبوة ويشكك فيها وكل ما أدى إلى ذلك فهو باطل وزعموا أن تجويز هذا يعدم الثقة بما شرعوه من الشرائع ولعله يتخيل إليه جبريل -عليه السلام- وليس ثم ما يراه أو أنه أوحى إليه وما أوحي إليه وهذا الذي قالوه باطل وذلك أن الدليل قد قام على صدقه فيما يبلغه عن الله سبحانه وعلى عصمته فيه والمعجزة شاهدة بصدقه وتجويز ما قام الدليل على خلافه باطل، وما يتعلق ببعض أمور الدنيا التي لم يبعث بسببها ولا كان رسولا مفضلا من أجلها هو في كثير منه عرضة لما يعترض البشر فغير بعيد أن يخيل إليه في أمور الدنيا ما لا حقيقة له، وقد قال بعض الناس إنما المراد بالحديث أنه كان يخيل إليه أنه وطىء زوجاته وليس بواطىء وقد يتخيل في المنام للإنسان مثل هذا المعنى ولا حقيقة له فلا يبعد أن يكون - صلى الله عليه وسلم - يتخيله في اليقظة وإن لم يكن حقيقة وقال بعض أصحابنا يمكن أن يكون يخيل إليه الشيء أنه فعله وما فعله ولكنه لا يعتقد ما تخيله أنه صحيح فتكون اعتقاداته كلها على السداد فلا يبقى لاعتراض الملحد طريق .
أما القاضي عياض  فقد بوب في الشفا باب ( فيما يخصهم في الأمور الدنيوية و ما يطرأ عليهم من العوارض البشرية ) [7] ، قال رحمه الله :
قد قدمنا أنه صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء والرسل من البشر وأن جسمه وظاهره خالص للبشر يجوز عليه من الآفات والتغييرات والآلام والأسقام وتجزع كأس الحمام ما يجوز على البشر وهذا كله ليس بنقيصة فيه لأن الشئ إنما يسمى ناقصا بالإضافة إلى ما هو أتم منه وأكمل من نوعه وقد كتب الله تعالى على أهل هذه الدار فيها يحيون وفيها يموتون ومنها يخرجون وخلق جميع البشر بمدرجة الغير فقد مرض صلى الله عليه وسلم واشتكى وأصابه الحر والقر وأدركه الجوع والعطش ولحقه الغضب والضجر وناله الإعياء والتعب ومسسه الضعف والكبر وسقط فجحش شقه وشجه الكفار وكسروا رباعيته وسقي السم وسحر وتداوى واحتجم وتنشر وتعوذ ثم قضى نحبه فتوفي صلى الله عليه وسلم ولحق بالرفيق الأعلى وتخلص من دار الامتحان والبلوى وهذه سمات البشرالتي لا محيص عنها وأصاب غيره من الأنبياء ما هو أعظم منه فقتلوا قتلا ورموا في النار ونشروا بالمناشير ومنهم من وقاه الله ذلك في بعض الأوقات ومنهم من عصمه كما عصم بعد نبينا من الناس فلئن لم يكف نبينا ربه يد ابن قمئة يوم أحد ولا حجبه عن عيون عداه عند دعوته أهل الطائف فلقد أخذ على عيون قريش عند خروجه إلى ثور وأمسك عنه سيف غورث وحجر أبي جهل وفرس سراقة ولئن لم يقه من سحر ابن الأعصم فلقد وقاه ما هو أعظم من سم اليهودية وهكذا سائر أنبيائه مبتلى ومعافى وذلك من تمام حكمته ليظهر شرفهم في هذه المقامات ويبين أمرهم ويتم كلمته فيهم وليحقق بامتحانهم بشريتهم ويرتفع الالتباس عن أهل الضعف فيهم لئلا يضلوا بما يظهر من العجائب على أيديهم ضلال النصاري بعيسى ابن مريم وليكون في محنهم تسلية لأممهم ووفور لأجورهم عند ربهم تماما على الذي أحسن إليهم، قال بعض المحققين وهذه الطوارى والتغييرات المذكورة إنما تختص بأجسامهم البشرية المقصود بها مقاومة البشر ومعناة بني آدم لمشاكلة الجنس وأما بواطنهم فمنزهه غالبا عن ذلك معصومة منه متعلقة بالملإ الأعلى والملائكة لأخذها عنهم وتلقيها الوحي منهم قال وقد قال صلى الله عليه وسلم (إن عيني تنامان ولا ينام قلبي) وقال (إني لست كهيئتكم إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني) وقال (لست أنسى ولكن أنسى ليستن بي) فأخبر أن سره وباطنه وروحه خلاف جسمه وظاهره وأن الآفات التي تحل ظاهرة من ضعف وجوع وسهرونوم لا يحل منها شئ باطنه بخلاف غيره من البشر في حكم الباطن لأن غيره إذا نام استغرق النوم جسمه وقلبه وهو صلى الله عليه وسلم في نومه حاضر القلب كما هو في يقظته حتى قد جاء في بعض الآثار أنه كان محروسا من الحدث في نومه لكون قلبه يقظان كما ذكرناه وكذلك غيره إذا جاع ضعف لذلك جسمه وخارت قوته فبطلت بالكلية جملته وهو صلى الله عليه وسلم قد أخبر أنه لا يعتريه ذلك وأنه بخلافهم لقوله (إني لست كهيئتكم إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني وكذلك أقول إنه في هذه الأحوال كلها من وصب ومرض وسحر وغضب لم يجر على باطنه ما يخل به ولا فاض منه على لسانه وجوارحه ما لا يليق به كما يعتري غيره من البشر مما نأخذ بعد في بيانه .
فصل فإن قلت فقد جاءت الأخبار الصحيحة أنه صلى الله عليه وسلم سحر كما حدثنا الشيخ أبو محمد العتابي بقراءتي عليه قال نا حاتم بن محمد نا أبو الحسن علي بن خلف نا محمد بن أحمد نا محمد بن يوسف نا البخاري نا عبيد ابن إسماعيل نا أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إنه ليخيل إليه أنه فعل الشئ وما فعله وفي رواية أخرى حتى كان يخيل إليه أنه كان يأتي النساء ولا يأتيهن (الحديث) وإذا كان هذا من التباس الأمر على المسحورذوي الأضاليل يستفاد من نفس الحديث وهو أن عبد الرزاق قد روى هذا الحديث عن ابن المسيب وعروة بن الزبير، وقال فيه عنهما سحر يهود بني زريق رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلوه في بئر حتى كاد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينكر بصره ثم دله الله على ما صنعوا فاستخرجه من البئر، وروي نحوه عن الواقدي وعن عبد الرحمن بن كعب وعمر بن الحكم وذكر عن عطاء الخراساني عن يحيى بن يعمر حبس رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عائشة سنة فبينا هو نائم أتاه ملكان فقعد أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه (الحديث) ، قال عبد الرزاق: حبس رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عائشة خاصة سنة حتى أنكر بصره، وروى محمد بن سعد عن ابن عباس مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم فحبس عن النساء والطعام والشراب فهبط عليه ملكان وذكر القصة، فقد استبان لك من مضمون هذه الروايات أن السحر إنما تسلط على ظاهره وجوارحه لا على قلبه واعتقاده وعقله وأنه إنما أثر في بصره وحبسه عن وطء نسائه وطعامه وأضعف جسمه وأمرضه ويكون معني قوله: يخيل إليه أنه يأتي أهله ولا يأتيهن، أي: يظهر له من نشاطه ومتقدم عادته القدرة على النساء فإذا دنا منهن أصابته أخذه السحر فلم يقدر على إتيانهن كما يعتري من أخذ واعترض، ولعله لمثل هذا أشار سفيان بقوله: وهذا أشد ما يكونمن السحر ويكون قوله عائشة في الرواية الأخرى إنه ليخيل إليه أنه فعل الشئ وما فعله من باب اما اختل من بصره كما ذكر في الحديث فيظن أنه رأى شخصا من بعض أزواجه أو شاهد فعلا من غيره ولم يكن على ما يخيل إليه لما أصابه في بصره وضعف نظره لا لشئ طرأ عليه في ميزه وإذا كان هذا لم يكن فيما ذكر من إصابة السحر له وتأثيره فيه ما يدخل لبسا ولا يجد به الملحد المعترض أنسا .
قال ابن بطال : قال المهلب: وأيضًا فإن ذلك السحر لم يضره (صلى الله عليه وسلم) ؛ لأنه لم يفقده شيئًا من الوحى، ولا دخلت عليه داخلة فى الشريعة، وإنمااعتراه شيء من التخيل والتوهم، ثم لم يتركه الله على ذلك، بل تداركه ثم عصمه وأعلمه بموضع السحر، وأمره باستخراجه وحله عنه، فعصمه الله من الناس ومن شرهم، كما وعده، وكما دفع عنه أيضًا ضر السم بعد أن أطلعه الله على المكيدة فيه، بأنه أظهرها إليه معجزة من كلام الذراع. وقد اعترض بعض الملحدين بحديث عائشة، وقالوا: وكيف يجوز السحر على النبى، والسحر كفر وعمل من أعمال الشياطين، فكيف يصل ضره إلى النبى مع حياطة الله له وتسديده إياه بملائكته، وصون الوحى من الشياطين؟ وهذا اعتراض يدل على جهل وغباوة من قائله وعناد للقرآن؛ لأن الله قال لرسوله: (قل أعوذ برب الفلق ) إلى قوله: (ومن شر النفاثات فى العقد ) والنفاثات: السواحر ينفثن فى العقد كما ينفث الراقى فى الرقية، فإن كانوا أنكروا ذلك؛ لأن الله لا يجعل للشياطين سبيلا على النبى، فقد قال تعالى: (وما أرسلنا من رسول ولا نبى إلا إذا تمنى ألقى الشيطان فى أمنيته ) يريد إذا تلا ألقى الشيطان. وقد روى عن النبى - (صلى الله عليه وسلم) أن عفريتًا تغلب عليه ليلة ليقطع عليه الصلاة حتى هم أن يربطه إلى سارية من سوارى المسجد فذكر قول سليمان: (رب اغفر لى وهب لى ملكًا لا ينبغى لأحد من بعدى ) فرده خاسئًا. وليس فى جواز ذلك على النبى ما يدل أن ذلك يلزمه أبدًا، أو يدخل معه عليه داخلة فى شيء من حاله أو شريعته، وإنما ناله من ضر السحر ما ينال المريض من ضر الحمى والبرسام من غير سحر، من الضعف عن الكلام، وسوء التخيل،ثم زال ذلك عنه، وأفاق منه، وأبطل الله كيد السحرة، وقد أجمع المسلمون أنه معصوم فى الرسالة فسقط اعتراض الملحدة .[8]


و بهذا قال جمهور العلماء من المحدثين و المفسرين و المؤرخين و للزيادة يراجع :  الخطابي [9]،و وابن القيم [10]، والعيني [11]، والسندي[12]، وابن حجر الهيتمي[13]و الحجوي [14] و قد فصلت في الموضوع في كتاب ( مسالك المالكية في الجواب عما أشكل من أحاديث الصحيحين ) .

·       عبد الحميد بن محمد بن المير


[1]  ص 154-153
[2] صحيح البخاري رقم 3175-3268-5763-5765-5766-6063-6064-6391

[3] احكام القرآن ص 58-59
[4] لسان العرب لابن منظور ج 15 ص 360
[5] سورة طه الآيات 65-68
[6]  المعلم بفوائد مسلم 3/158-159 الدار التونسية للنشر ط 2 -1991
[7] الشفا بتعريف حقوق المصطفى 2/178-179-180-181-182-183 ط دار الفكر1988
[8] شرح صحيح البخاري لابن بطال 5/358-359-360 مكتبة الرشد ط 2 .
[9] اعلام الحديث 2/1501
[10] بدائع الفوائد 2/192
[11] عمدة القاري 15/98
[12] حاشية السندي على سنن النسائي 7/113
[13] الزواجر عن اقتراف الكبائر، للهيتمي (2/ 163 ـ 164).
[14] الدفاع عن الصحيحين

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أرشيف المدونة

آخر التعليقات

عن الموقع

موقع الإمام البخاري صرح علمي شامل .. نحاول من خلاله جمع شتات ما كتب و صنف حول البخاري و صحيحه ، من شروحات و طبعات و تراجم ، و أطروحات علمية و أكاديمية ، مقالات علمية .. كما يحتوي على مكتبة سمعية و بصرية مفيدة لطلاب العلم .