نقد مطاعن رشيد ايلال في فصل ( عذر أقبح من زلة )









قال أيلال "حاولتُ البحثَ عن الأسباب التي جعلتْ هؤلاء يدوِّنون الأحاديث، ضدًّا على أمر الرسول الكريم، ويرفعونها إلى المكان العليِّ السَنِيِّ، فوق كلِّ شيء، حتى فوق كلام الله، فوجدت لديهم أعذارا واهية أقلَّ ما يقال عنها، أنها عذر أقبح من زلَّة، كما ستقفون معي خلال مناقشة أعذار هؤلاء".[1]
الوقفة الأولى :
أولا : كعادته في الطعن و السب للعلماء فقد حمل كلامه ألوانا من الافتراء و التقول على علماء المسلمين ، المصاحب لسوء الأدب مع المخالف  !
ثانيا :الحط من قيمة السنة النبوية و إهدار حجيتها باعتبارها تراثا تاريخيا ، و تجاهل إجماع الأمة على حجيتها ، مقلدا في ذلك المستشرقين و أذنابهم " القرآنيين " .. فهذا زعيمهم يقول : " ونحن وإنْ كنَّا نعتبر القرآن هو المصدر الوحيد لسنة النبي، وشريعة الرحمن، ودين الله الأعلى، فإنَّنَا نضع تلك الروايات الحديثية موضعها الصحيح، وهي أنَّها تاريخٌ بشريٌّ للنبي وللمسلمين، وصدى لثقافتهم وأفكارهم سواء اتفقت أم لم تتفق مع القرآن " [2]
الوقفة الثانية :
 إن اعتذار العلماء لأحاديث النهي عن الكتابة، ومحاولة تفسيرها تفسيرا لائقا مع الأحاديث التي فيها الاذن بالكتابة، هو عين المنهج العلمي المتوازن، الذي يحتكم إليه الباحثون، فإن انكار بعض الأحاديث والتمسك بما يخالفها تحكم في الاستدلال، خاصة وأنَّ أحاديث الإذن بالكتابة أقوى وأشهر، ويؤيدها عمل الصحابة ومن بعدهم، والطريقة الصواب هي إحسان الظن وإنزال كل حديث منزله، قال الإمام أحمد بن حنبل: "ولا تُضْرَبُ الأحاديث بعضها ببعض، يعطى كلُّ حديث وجهه".[3]
قال المناوئ :  " أول عذر يقدمه الشيوخ في مواجهة الأحاديث المانعة لكتابة الحديث ،هي أنها منسوخة بالأحاديث المبيحة للكتابة، وهذا تفسير غريب من طرف هؤلاء الشيوخ ، فهم يحاولون تفسير و إيجاد حلول لكل ورطة يقعون فيها، بتجزيئها عن السياق العام للأدلة الواردة في هذا الشأن ، بحيت أنه لو كان هناك فعلا ناسخا ومنسوخا في هاته القضية ، فالأولى أن تنسخ أحاديث المنع أحاديث الإباحة ، باعتبار أن الخلفاء الراشدين صاروا على نهج منع كتابة الأحاديث، فيكون الدليل هنا أن جمهور الصحابة والخلفاء الراشدين لم ينته إلى علمهم أنه قبل وفاة الرسول تم نسخ حديث منع الكتابة، لصالح الإباحة، وإلا لجمعوا احاديث الرسول ودونوها في دواوين وكتب، كما فعلوا بخصوص القرآن الكريم، لكنهم نهجوا عكس هذا وصاروا على نهج منع تدوين الحديث ،بل إن عمر بن الخطاب قام بحرق نسخ الحديث المكتوبة بعد جمعها، فكيف يكون حديث المنع منسوخا بالإباحة، رغم استمرار هؤلاء الخلفاء في منع كتابة الحديث؟!!
وإذا كان جواب أحد شيوخهم أن بعض الصحابة قام فعلا بكتابة حديث رسول الله، فنقول له أثبت ذلك من خال تدوينة واحدة لأحد الصحابة ، إذ لو كان الصحابة يعتبرون  كلام رسول الله دينا لدونوه، و إذا  كانوا فعلا  كتبوا أحاديث رسول الله، فأرونا ماذا كتبوا، وما دونوا؟ " [4]
احتوى كلامه – هذا – ألوانا عدة من الغلط و التغليط  ، و من سوء الفهم و الجهل ، و عدم الإحاطة و الإستقراء للموضوع المناقش ، و الأخطر من ذلك الكذب على الصحابة كل ذلك لتقويض حجية السنة النبوية !


الوقفة الأولى
حاول العلماء أن يوفقوا بين ما ورد من نهي عن الكتابة وما وري من إباحة لها، وترجع آراؤهم إلى أربعة أقوال:
فمنهم من قال أن النهي عن الكتابة إنما كان في أول الإسلام مخافة اختلاط الحديث بالقرآن،
فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم  عن كتابة الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة، لأنهم كانوا يسمعون تأويل الآية، فربما كتبوه معه، فنهوا عن ذلك لخوف الاشتباه .
فلما كثر عدد المسلمين، وعرفوا القرآن معرفة رافعة للجهالة وميزوه من الحديث - زال هذا الخوف عنهم، فنسخ الحكم الذي كان مترتبا عليه، وصار الأمر إلى الجواز. وفي هذا قال الرامهرمزي: «وحديث أبي سعيد: "حرصنا أن يأذن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتاب فأبى "، أحسب  أنه كان محفوظا في أول الهجرة وحين كان لا يؤمن الاشتغال به عن القرآن».
والقول بالنسخ أحد المعنيين اللذين فهمهما ابن قتيبة من تلك الأخبار. فقال: «أحدهما: أن يكون من منسوخ السنة بالسنة، كأنه نهى في أول الأمر عن أن يكتب قوله، ثم رأى بعد - لما علم أن السنن تكثر وتفوت الحفظ - أن تكتب وتقيد» ، ورأى هذا الرأي كثير من العلماء، وذهب إليه العلامة المحقق الأستاذ أحمد محمد شاكر  فبعد أن دعم رأيه بالأخبار التي تبيح الكتابة قال: «كل هذا يدل على أن حديث أبي سعيد - «لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه» - منسوخ، وأنه كان في أول الأمر، حين خيف اختلاط غير القرآن بالقرآن وحديث أبي شاه في أواخر حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك أخبار أبي هريرة - وهو متأخر الإسلام - " أن عبد الله بن عمرو كان يكتب، وأنه هو لم يكن يكتب ": يدل على أن عبد الله كان يكتب بعد إسلام أبي هريرة، ولو كان حديث أبي سعيد في النهي متأخرا عن هذه الأحاديث في الإذن والجواز لعرف ذلك عند الصحابة يقينا صريحا» .
قال الدكتور الحطيب : فنهى - عليه الصلاة والسلام - عن كتابة الحديث الشريف مع القرآن في صحيفة واحدة خوف الالتباس، وربما يكون نهيه عن كتابة الحديث على الصحف أول الإسلام حتى لا يشغل المسلمون بالحديث عن القرآن الكريم، وأراد أن يحفظ المسلمون القرآن في صدورهم وعلى الألواح والصحف والعظام توكيدا لحفظه، وترك الحديث للممارسة العملية، لأنهم كانوا يطبقونه: يرون الرسول فيقلدونه، ويسمعون منه فيتبعونه، وإلى جانب هذا سمح لمن لا يختلط عليه القرآن بالسنة أن يدون السنة كعبد الله بن عمرو، وأباح لمن يصعب عليه الحفظ أن يستعين بيده حتى إذا حفظ المسلمون قرآنهم وميزوه عن الحديث جاء نسخ النهي بالإباحة عامة، وإن وجود علة من علل النهي السابقة لا ينفي وجود غيرها ولا يتعارض معه، كما أن وجود علة النهي لا ينفي تخصيص هذا النهي بالسماح لبعض من لا تتحقق فيهم هذه العلة. فالنهي لم يكن عاما، والإباحة لم تكن عامة في أول الإسلام، فحيثما تحققت علة النهي منعت الكتابة، وحيثما زالت أبيحت الكتابة.
وأرى في حديث أبي شاه وفي حديث ابن عباس: «ائتوني بكتاب ... » إذنا عاما، وإباحة مطبقة للكتابة، وعلى هذا لا تعارض بين جميع تلك الروايات فقد سهل التوفيق بينها وتبين وجه الصواب. وانتهى أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإباحة الكتابة، وسنرى فيما بعد بعض ما دون في عهده - صلى الله عليه وسلم -[5]
 و أما من قال إن النهي كان متوجهاً عن كتابة القرآن و الحديث في صحيفة واحدة فقد اعتبره نهياً خاصاً، وذلك خشية اختلاط القرآن بغير القرآن فلا يراد به النهي المطلق [6]، وذلك أنهم كانوا يسمعون القرآن وتأويله، فربما كتبوا التأويل معه، ويؤيد هذا ما ورد من قراءات شاذة كمن قرأ: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ متتاليات} [المائدة /89] [7]. وهذا القول له وجاهة ولاسيما إذا عرفنا ندرة وسائل الكتابة كما تقدم في الفصل الثاني، ويوجز هذا زيد بن ثابت رضي الله عنه عندما جمع المصحف بتكليف من أبي بكر رضي الله عنه فقال "فتتبعت القرآن أجمعه من العُسُب واللخاف" وفي رواية "القصبَ والعسبَ والكرانيف وجرائد النخل" وفي رواية "من الرقاع" وفي رواية "وقطع الأديم"  ، وفي رواية "والأكتاف"، وفي أخرى "والأضلاع"، وفي أخرى "والأقتاب"  .
فإذا كان القرآن الكريم على عظيم مكانته لم يجد الصحابة رضي الله عنهم ما يكتبونه عليه إلا هذه الأشياء، وهي كما ترى قطع صغيرة مفرقة، فأنى تتسع لغير القرآن، ولو كتب معه شيء والحالة هذه فهو أدعى أن يختلط معه غيره.[8]


الوقفة الثانية :

أما إدعاؤه أن الصحابة صاروا على نهج المنع و استدل بحرق عمر – رضي الله عنه – لنسخ الحديث فقد علمت سابقا بطلان هذه النسبة لعمر رضي الله عنه ، و أما تحديه لنا بإثبات تدوينة واحدة لأحد الصحابة ، فإننا سنذكر عدة صحائف حديثية لعدد من الصحابة الكرام ، و قد مر معنا – آنفا- ما أثبته  الإمام الدارمي رحمه الله من نقول مستفيضة عن كتابة عدد من الصحابة للحديث .
 و كل من درس السنة و الحديث يعلم أن " المهمّ هو الحفاظ على السنّة، وليست الكتابة إلا وسيلة لهذه الغاية. فالغاية هي الحفاظ على السنة، وليست كتابتها. ولمّا كان أصحاب النبيّ –صلى الله عليه وسلم- والخلفاء الراشدوُن منهم خاصة وفقهاء الصحابة وعلماؤهم قد لازموا النبيّ –صلى الله عليه وسلم- وأخذوا عنه السنّة مباشرة، دون أسانيد يخشون نسيانها، ودون رواة وسائط فيهم من يُحتمل فيه الخطأ والكذب= كان حِفْظُ السنة في صدورهم كفيلاً بحفظ السنة، ولم تكن الكتابة في زمنهم حَلاَّ وحيدًا لحفظها، بل ليست الحلّ الأمثل أيضًا؛ لأن حفظ الصدر ما دام ممكنًا، وحصل لهم بسهولة لمعايشتهم للنبيّ –صلى الله عليه وسلم- ولارتباط سننه –صلى الله عليه وسلم- بحوادث ومشاهد حضروها ورأوها وشاركوا فيها، فقد أدّى ذلك إلى رسوخ تلك السنن في أذهانهم مع أسباب عديدة توفّرت في الصحابة، أعانتهم على إتقان حفظ السنة وعلى تيسُّره عليهم. كما أن حفظ الصدر أدعى لاستحضار النصّ النبوي عند التفقّه والاستنباط، وعند العمل والتطبيق، فكان الحفظ في عهد الصحابة مقدَّمًا على الكتابة لذلك ولغيره مما أشرتُ إليه.
ولا يعني ذلك أن الصحابة لم يكتبوا، بل من الصحابة من كتب: كعبد الله بن عَمرو ابن العاص، وعلي بن أبي طالب، وسمرة بن جندب، وعَمرو بن حزم، وغيرهم رضي الله عنهم.
وهناك بحوث عديدة، ومنها بحوث أكاديمية في جامعات عالميّة، أثبتت كتابة الصحابة والتابعين وتابعيهم للسنة، مثل رسالة الدكتوراه (دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه) للدكتور محمد مصطفى الأعظمي، المقدّمة إلى جامعة كمبردج في أكتوبر سنة (1966م)، ورسالة الدكتوراه الأخرى (إحكام الذريعة إلى أحكام الشريعة للحافظ السرمري الحنبلي، مع دراسة لمراحل تدوين السنة) للدكتور حاكم عبيسان المطيري. والمقدّمة إلى جامعة برمنغهام، وإلى قسم الدراسات الإسلامية بالجامعة.
وأدلّة ذلك كثيرة جدًّا، ويكفي وجود عدد كبير جدًّا من دواوين السنة قبل البخاري، مثل موطأ مالك، ومصنف عبد الرزاق، ومصنف ابن أبي شيبة، ومسند الإمام أحمد، وغيرها من الكتب التي تفوق صحيح البخاري حجمًا (باستثناء الموطأ الذي هو أصغر حجمًا من صحيح البخاري)." [9]
و قد فصل الشيخ صبحي الصالح في تحقيق هذه المسألة ، و ننقله بطوله لنفاسته  . قال –رحمه الله -[10] :
الصُّحُفُ المَكْتُوبَةُ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
من المؤكَّد - على كل حال - أنَّ بعض الصحابة كتبوا طائفة من الأحاديث في حياته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومنهم من كتبها بإذن خاص من الرسول مُسْتَثْنَى من النهي العام كما أوضحنا، بَيْدَ أنَّ أكثرهُم قيَّدُوا ما جمعوه في السنوات الأخيرة من حياته - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - بعد أنْ أذن بالكتابة لكل من رغب فيها وقدر عليها ، ولدينا أخبار عن هذه الصحف تتفاوت أسانيدها قوة وضُعفاً، ومع أنَّ أسانيد بعضها قوية جداً فنحن لا نملك اليوم شيئاً محسُوساً من آثارها ، وإنْ كنا لا نرتاب في تحقيق كتابتها في حياته - صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ -، وفي تناقل الناس لها زمناً غير قليل بعد وفاته - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - ولحاقه بالرفيق الأعلى.
روى الترمذي أنَّ سعد بن عبادة الأنصاري كان يملك صحيفة جمع فيها طائفة من أحاديث الرسول وسُننه ، وكان ابن هذا الصحابي الجليل يروي من هذه الصحيفة.
ويروي البخاري أنَّ هذه الصحيفة كانت نُسخة من صحيفة عبد الله بن أبي أوفى الذي كان يكتب الأحاديث بيده، وكان الناس يقرؤون عليه ما جمعه بخطه . وسمُرة بن جندب (- 60 هـ) كان قد جمع أحاديث كثيرة في نسخة كبيرة ورثها ابنه سليمان ورواها عنه ، وهي - على ما يظن - الرسالة التي بعثها سمُرة إلى بنيه ، وهي التي يقول فيها ابن سيرين: «فِي رِسَالَةِ سَمُرَةَ إِلَى بَنِيهِ عِلْمٌ كَثِيرٌ» . ولكن ابن سيرين «لم ير بأساً، إذا سمع الرجل الحديث، أنْ يكتبه، فإذا حفظه محاه» كما روى عنه يحيى بن عتيق في " تقييد العلم ": ص 60 وحماد بن زيد في " المحدث الفاصل ": 4 الورقة 5 الوجه الثاني. ولعلَّهُ بدأ أمره يكتب أو يقرأ من الكتب، ولذلك عرف مضمون رسالة سَمُرَةَ إلى بنيه، وقدر ما فيها من العلم الكثير.
وكان لجابر بن عبد الله (- 78 هـ) صحيفة أَيْضًا ، ويرى مسلم في " صحيحه " أنها في مناسك الحج  ، ويحتمل أنْ يكون في بعض أحاديثها ذكر حجَّة الوداع التي ألقى فيها الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطبته الجامعة، ويوشك هذا الاحتمال أنْ يصبح يقيناً إذا عرفنا أنَّ التابعي الجليل قتادة بن دعامة السَدُوسي (- 118 هـ) كان يُكْبِرُ من قيمة هذه الصحيفة ويقول: «لأَنَا بِصَحِيفَةِ جَابِرٍ أَحْفَظ مِنِّي مَن سُورَة البَقَرَةِ» ولا يبعد أنْ تكون الأحاديث التي رواها سليمان بن قيس اليشكري - وهو أحد تلامذة جابر - منقولة عن هاتيك الصحيفة وجدير بنا أنْ نُقِيمَ وَزْنًا للرواية التي تُصوِّرُ لنا وهب بن منبه (- 114 هـ) يروي أحاديث جابر من إملائه حين يعقد جابر حلقة في المسجد النبوي، فيحتمل أنْ تكون هذه الأحاديث منقولة من صحيفة جابر أَيْضًا. وأقل ما يستنتج من هذا أَنَّ تلك الصحيفة كانت معروفة مشهورة بين الناس، وأنَّ من الممكن أَنْ يكون بعض تلامذة جابر قَدْ نَسَخُوهَا  وإنْ كنا لا نملك أَثَرًا مَحْسُوسًا مِنْ نَسْخِهِمْ.
ومن أشهر الصحفة المكتوبة في العصر النبوي «الصحيفة الصادقة» التي كتبها جامعها عبد الله بن عمرو بن العاص (65) من رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد اشتملت على ألف حديث كما يقول ابن الأثير ، وإذا لم تصل هذه الصحيفة - كما كتبها عبد الله بن عمرو بخطه فقد وصل إلينا محتواها، لأنها محفوظة في " مسند الإمام أحمد " حتى ليصح أنَّ نصفها بأنها أصدق وثيقة تاريخية تثتب كتابة الحديث على عهده - صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ -. ويزيدنا اطمئناناً إلى صحة هذه الوثيقة أنها كانت نتيجة طبيعية محتومة لفتوى النَّبِي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعبد الله ابن عمرو وإرشاده الحكيم له، فقد جاء عبد الله يستفتي رسول الله - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - في شأن الكتابة قائلاً أكتُبُ كلَّ ما أسمع؟ قال: «نَعَمْ»، قال: في الرضى والغضب؟ قال: «إِنِّي لَا أَقُولُ فِي ذَلِكَ إِلَّا حَقًّا». ويُخَيَّلُ إلينا أنه لا بُدَّ أنْ يكون عبد الله بن عمرو قد أخذ في كتابة الأحاديث بعد هذه الفتوى الصريحة من الرسول الكريم وتلك الصحيفة الصادقة كانت ثمرة هذه الفتوى. وآية اشتغال ابن عمرو بكتابة هذه الصحيفة وسواها من الصحف أَيْضًا قول أبي هريرة الصحابي الجليل: «ما من أصحاب رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحد أكثر حديثاً عنه مني إلاَّ ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب وكنت لا أكتب».
وأكبر الظن أنَّ عمرو بن شعيب (- 120 هـ) - وهو حفيد عبد الله بن عمرو - إنما كان يروي فيما بعد من أحاديث هذه الصحيفة قارئاً أو حافظاً من أصلها. وقد أتيح للتابعي الجليل مجاهد بن جبر (- 103 هـ) أنْ يرى هذه الصحيفة عند صاحبها عبد الله بن عمرو .
ولقد شاعت في عصر الصحابة صيحفة خطيرة الشأن أمر النَّبِي - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - نفسه بكتابتها في السنة الأولى للهجرة، فكانت أشبه شيء بـ «دستور» للدولة الفتية الناشئة آنذاك في المدينة: وهي الصحيفة التي دوَّن فيها كتاب رسول الله حقوق المهاجرين والأنصار واليهود وعرب المدينة. ولفظ الكتابة صريح في مطلعها: «هذا كتاب محمد النَّبِي رسول الله بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم: إنهم أمَّةٌ واحدة من دون الناس» . وقد تكرَّرت فيها عبارة (أهل هذه الصحيفة) خمس مرات، فلم يكن بُدّ من الاعتراف بكتابتها. ولقد بلغ من شهرة أمرها أنها أصبحت تقرن وحدها بكتاب الله لتواترها وكثرة ما فيها من أحكام الإسلام وكلياته الكبرى. ولعلَّ عليّ بن أبي طالب لم يكن يقصد سواها حين سُئِلَ: هل عندكم كتاب؟ فأجاب: لا، إلاَّ كتاب الله أو فهم أعطية رجل مسلم وما في هذه الصحيفة. فلما قيل له: وما في هذه الصحيفة؟ قال: «الْعَقْلُ  وَفَكَاكُ الأَسِيرِ، وَلاَ يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ» كانت هذه الأمور جزءاً مُهِمّاً مِمَّا اشتملت عليه الصحيفة المذكورة.
وعبد الله بن عباس (- 69هـ) عني بكتابة الكثير من سُنَّةِ الرسول وسيرته في ألواح كان يحملها معه في مجالس العلم . ولقد تواتر أنه ترك حين وفاته حِمْل بعير من كتبه . وكان تلميذه سعيد بن جُبير (- 95 هـ) يكتب عنه ما يُملي عليه، فإذا نفد القرطاس كتب على لباسه ونعله وربما على كَفِّهِ ثم نسخه في الصحف عند عودته إلى بيته . ولا ريب أنَّ صحف ابن عباس ظلت معروفة متداولة مدة طويلة من الزمن، فقد ورثها ابنه عليٌّ ، وتعاقب الناس على الرواية منها والأخذ عنها حتى امتلأت كتب التفاسير والحديث بمسموعات ابن عباس ومروياته. ولكننا - مع ذلك - لا نستطيع تحديد الزمن الذي تلفت فيه تلك الصحف ولا الصورة التي تلفت عليها.

صَحِيفَةُ أَبِي هُرَيْرَةَ لِهَمَّامٍ بْنِ مُنَبِّهٍ:
وكذلك تلفت الصحف الكثيرة التي جمعها الصحابي الجليل أبو هريرة (- 58 هـ) إلاَّ صحيفة واحدة رواها عنه تلميذه التابعي همام بن منبه المتوفَّى سَنَةَ 101 هـ ثم نسبت إليه فقيل: صحيفة همام وهي في الحقيقة صحيفة أبي هريرة لهمام. ولا يمكننا أنْ نسلك هذه الصحيفة في عداد ما كتب في العصر النبوي، لأنَّ هماماً ولد قبيل سنة 40 وتوفي شيخه أبو هريرة سنة 58، فلا بدَّ أنْ يكون تدوينه لهذه الصحيفة قبل وفاة شيخه - لأنها سماعه منه بعد مجالسته إياه - أي في منتصف القرن الهجري الأول، وتلك نتيجة علمية باهرة تقطع بتدوين الحديث في عصر مُبكِّرٍ، وتُصَحِّحُ الخطأ الشائع: أنَّ الحديث لم يُدَوَّنْ إلاَّ في أوائل القرن الهجري الثاني.
وإنما كانت لهذه الصحيفة مكانة خاصة في تدوين الحديث، لأنها وصلت إلينا كاملة سالمة كما رواها ودوَّنها همام عن أبي هريرة، فكانت جديرة باسم «الصحيفة الصحيحة»  على مثال «الصحيفة الصادقة» لعبد الله بن عمرو بن العاص وقد سبقت الإشارة إليها. وعثر على هذه الصحيفة الباحث المُحَقِّق الدكتور محمد حميد الله في مخطوطتين متماثلتين في دمشق وبرلين ،  وزادنا ثقة بما جاء فيها أنها برُمَّتِها ماثلة في " مسند أحمد " ، وأنَّ كَثِيرًا من أحاديثها مروي في " صحيح البخاري " في أبواب مختلفة ، وتعداد هذه الصحيفة 138 حديثاً . ولدينا من الأخبار مَا يُؤَكِّدُ وُلُوعَ هَمَّامٍ بِالكُتُبِ وَاقْتِنَائِهَا وَإِمْلاَئِهَا، فَقَدْ كَانَ «يَشْتَرِي الكُتُبَ لأَخِيهِ وَهْبٌ»  وكان يخرج إلى الناس الكتب والكراريس فَيُمْلِي منها الأحاديث ."





الوقفة الثالثة :

إدعاؤه أن الصحابة لم يعتبروا كلام الرسول دينا ! كبرت كلمة تخرج من فيه ..
قلنا سابقا أن  الهدف واحد : " هدم مفهوم الإسلام الصحيح الجامع المترابط من القرآن والسُنَّة: بين النص القرآني المُنَزَّلِ، وبين السُنَّة التي يتمثل فيهاالتطبيق العملي من حيث عمل الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبيانه، وتفصيل لما أجمل، وتوضيح ما بَلَّغَ أو تقييد لمطلق، أو تخصيص لعام: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}[11]
فإذا كان الرسول الكريم قد منع الصحابة من كتابة حديثه ، فإنه بذلك نفى عن أقواله و أفعاله صبغة التشريع – على حد زعم المناوئ – و بالتالي تصبح مرويات سنته " نصوص تاريخية "[12] ، و موروث ثقافي ، لا ينبغي  الإحتكام اليه في أمور العبادة أو التشريع . و هذا ما فهمه الصحابة كما يدعي أيلال كذبا و زورا لما قال : " وإذا كان جواب أحد شيوخهم أن بعض الصحابة قام فعلا بكتابة حديث رسول الله، فنقول له أثبت ذلك من خلال تدوينة واحدة لأحد الصحابة ، إذ لو كان الصحابة يعتبرون  كلام رسول الله دينا لدونوه، و إذا  كانوا فعلا  كتبوا أحاديث رسول الله، فأرونا ماذا كتبوا، وما دونوا؟ " [13]
و الجواب على هذه المزاعم :
إنّ اللَّه عز وجل أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وأنزل عليه كتابه الكريم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، وأمره بتبليغه للناس وبيانه فقال عز وجل:{يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}.[14]
وقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}[15].
وقال سبحانه: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} .[16] ثم أوجب اللَّه علينا طاعته، وامتثال أوامره، والانتهاء عن نواهيه فقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ}.[17] وقال سبحانه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} .[18]
ومما لا شك فه أنّ الكتاب والسنة أصلان أصيلان لا ينفك أحدهما عن الآخر، ومنبعان للتشريع متعاضدان. قال صلى اللَّه عليه وسلم: "ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه. [19]
وقال أيضًا: "تركت فيكم شيئين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا: كتاب اللَّه، وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا عليّ الحوض"[20]
   ولقد تكفل اللَّه عز وجل بحفظ شريعة الإسلام كتابًا وسنة، لأنها هي الشريعة التي ارتضاها، وكتب لها الخلود والبقاء إلى يوم القمامة، قال تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [21] وقال سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} .[22]
والسنة لها مكانة عالية وكبيرة في الإسلام، فهي الأصل الثاني بعد كتاب اللَّه عز وجل المعتمد في التشريع، وقد جاءت السنة مفسرة لمبهم القرآن، مفصلة لمجمله، مقيدة لمطلقه، مخصصة لعمومه، شارحة لأحكامه وأهدافه ومراميه، وجاءت بأحكام زائدة مستقلة لم ينص عليها القرآن، ولما كان للسنة هذا القدر العظيم في الإسلام فقد اتفق علماء السنة قاطبة على حجيتها.
قال الإمام الشافعي رحمه اللَّه:
"قد وضع اللَّه رسوله صلى اللَّه عليه وسلم من دينه وفرضه وكتابه الموضع الذي أبان -جل ثناؤه- أنه جعله علمًا لدينه بما افترض من طاعته، وحرَّم من معصيته، وأبان من فضيلته، بما قرن بين رسوله مع الإيمان به، فقال تبارك وتعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ. . .} [23] ، وقال عز وجل:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ. . .} .[24] فجعل كمال ابتداء الإيمان الذي ما سواه تبع له الإيمان باللَّه ثم برسوله معه" [25] وقال الإمام الشوكاني: "إنّ ثبوت حجية السنة المطهرة، واستقلالها تشريع الأحكام ضرورة دينية، ولا يخالف في ذلك إلا من لا حظ له في الإسلام" .[26]
فلو لم تكن السُنَّة عند الصحابة الكرام - دينًا وشرعًا - كما يفتري المناوئ - لما اعتنوا بها أشد الإعتناء و تنافسوا في نشرها و حفظها و تبليغها ،إمتثالا لأمره عليه الصلاة و السلام  لهم بحفظ و تبليغ سنته ، مثل قوله: «احْفَظُوهُ وَأَخْبِرُوهُ مَنْ وَرَاءَكُمْ»وقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» [27].وقوله: «خُذُوا عَنِّى مَنَاسِكَكُمْ»[28].
وقوله: «لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ»[29].
فلو لم تكن السُنَّة شرعًا ودينًا لما حرص الصحابة والتابعون على حفظها ولما ضربوا أكباد الإبل لسماعها وحفظها وتدوينها وجمعها، يَقُولُ أَنَسٌ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: «كُنَّا نَكُونُ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَسْمَعُ مِنْهُ الحَدِيثَ فَإِذَا قُمْنَا نَتَذَاكَرُهُ فِيمَا بَيْنَنَا حَتَّى نَحْفَظُهُ»[30]. ويقول أبو هريرة: «إِنِّي لأُجَزِّئُ اللَّيْلَ ثَلاَثَةَ أَجْزَاءٍ: فَثُلُثٌ أَنَامُ، وَثُلُثٌ أَقُومُ، وَثُلُثٌ أَتَذَكَّرُ أَحَادِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّمَ»[31].
و عن أبي رافع قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لاَ أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَةٍ يَأْتِيهِ الأَمْرُ مِنْ أَمْرِي، مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ فَيَقُولُ: لاَ أَدْرِي، مَا وَجَدْنَا فِى كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ» [32].    
وفي حديث المقداد أنَّ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَرَّمَ أشياء يوم خيبر: الحمار الأهلي وغيره ثم قال: «يُوشِكُ الرَجُلُ مُتَّكِئًا عَلى أرِيكَتِهِ، يُحَدِّثُ بَحَدِيث مِنْ حَدِيثي فَيَقُولُ: بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْكِتَابُ اللهِ، فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَلاَل اسْتَحْلَلْنَاهُ، ومَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَرَامٍ حَرَّمْنَاهُ، أَلاَ وَإنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللهِ مِثْلُ مَا حَرَّم اللهُ»[33] .
قال البيهقي: «وهذا خبر من رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عما يكون من بعده من رَدِّ المبتدعة فوجد تصديقه فيما بعده»[34].
ثمَّ أخرج الْبَيْهَقِيّ بِسَنَدِهِ عَنْ شَبِيبٍ بْنِ أَبِي فُضَالَةَ الْمَكِّيّ: «أَنَّ عِمْرَاَنَ بْنَ حُصَيْن - رَضِيَ اللهُ - عَنهُ ذكر الشَّفَاعَة فَقَالَ رجل من الْقَوْم: يَا أَبَا نَجِيدٍ إِنَّكُم تُحَدِّثُونَا بِأَحَادِيثَ لَمْ نَجِدْ لَهَا أَصْلاً فِي القُرْآنِ، فَغَضِبَ عِمْرَان وَقَالَ لِلْرَّجُلِ: قَرَأْتَ الْقُرْآن؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَهَل وَجَدْتَ فِيهِ صَلاَةَ العِشَاءِ أَرْبَعًا وَوَجَدْتَ المَغْرِبَ ثَلاَثًا وَالغَدَاةَ رَكْعَتَيْنِ وَالظّهْرَ أَرْبَعًا وَالعَصْرَ أَرْبَعًا؟ قَالَ: لاَ: قَالَ. فَعَنْ مَنْ أَخَذْتُمْ ذَلِك، أَلَسْتُمْ عَنَّا أَخَذْتُمُوهُ وَأَخَذْنَاهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ أَوَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ شَاةٍ شَاةً وَفِي كل كَذَا بَعِيرًا كَذَا وفى كُلِّ كَذَا دِرْهَماً كَذَا. قَالَ: لاَ. قَالَ فَعَن من أَخَذْتُم ذَلِك؟ أَلَسْتُمْ عَنَّا أَخَذْتُمُوهُ وَأَخَذْنَاهُ عَن النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ وَقَالَ: أَوَجَدْتُمْ فِي الْقُرْآن: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [35] أَوَجَدْتُمْ فِيهِ فَطُوفُوا سَبْعاً وَارْكَعُوا رَكْعَتَيْنِ خَلْفَ المَقَامِ، أَوَجَدْتُمْ فِي الْقُرْآن: لاَ جلب وَلَا جنب وَلاَ شِغَارَ فِي الإِسْلاَم؟ أَمَا سَمِعْتُمْ اللهَ قَالَ فِي كِتَابِهِ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [36]قَالَ عِمْرَاَنُ: فَقَدْ أَخَذْنَا عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَشْيَاءَ لَيْسَ لَكُمْ بِهَا عِلْمٌ .[37]
و عن العرباض بن سارِيَّةَ مرفوعاً: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ». رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
وروى الحاكم عن ابن عباس - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - أنَّ النَّبِي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطب في حُجَّة الوداع فقال: «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أَنْ يُعْبَدَ بِأَرْضِكُمْ، وَلَكِنْ رَضِيَ أَنْ يُطَاعَ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِمَّا تَحْقِرُونَ مِنْ أَمْرِكُمْ فَاحْذَرُوا، إِنِّي تَرَكْتُ مَا إِنِْ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ فَلَنْ تَضِلُّوا أَبَدًا: كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ». وروى مثله الإمام مالك في " الموطأ ".
 قال أبو شهبة : وهي صريحة في أنَّ السُنَّة كالكتاب يجب الرجوع إليها في استنباط الأحكام وقد أجمع الصحابة - رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ - على الاحتجاج بالسُنن والأحاديث والعمل بها ولو لم يكن لها أصل على الخصوص في القرآن ولم نعلم أحداً خالف ذلك قط فكان الواحد منهم إذا عرض له أمر طلب حكمه في كتاب الله، فإن لم يجده طلبه في السُنَّة، فإن لم يجده اجتهد في حدود القرآن والسُنَّة وأصول الشريعة. وقد وضع لهم النَّبِي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -هذا الأساس القويم بإقراره لمعاذ حين بعثه إلى اليمن فقد قال له: «بِمَ تَقْضِي إِنْ عَرَضَ قَضَاءٌ؟ قَالَ: «بِكِتَابِ اللَّهِ». قَالَ: «فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟» قَالَ: «بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -». قَالَ: «فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟» قَالَ: «أَجْتَهِدُ رَأْيِي وَلاَ آلُو». فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَدْرَهُ وَقَالَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يُرْضِي اللَّهَ وَرَسُولَهُ» ..
وقد فهم الصحابة رجوع جميع ما جاءت به السُنَّة إلى القرآن من قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}[38].
روى البخاري في " صحيحه " عن عبد الله بن مسعود قال: «لَعَنَ اللَّهُ الوَاشِمَاتِ وَالمُوسْتَشِمَاتِ، وَالمُتَنَمِّصَاتِ وَالمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ المُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ»، فقالت أم يعقوب: «ما هذا؟» فقال عبد الله: «وما مالي لا ألعن من لعن رسول الله، وفي كتاب الله» قالت: «والله لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدته»، فقال: «والله لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} .
وهذه الآية تعتبر أصلاً لكل ما جاءت به السُنَّة مِمَّا لم يرد له في القرآن ذكر وعلى هذا الدرب والطريق الواضح من جاء بعد الصحابة من أئمة العلم والدين، روي عن الإمام الشافعي - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - أنه كان جالساً في المسجد الحرام يُحَدِّثُ الناس فقال: «لا تسألوني عن شيء إِلاَّ أجبتكم فيه من كتاب الله»، فقال الرجل: «ما تقول في المُحْرِمِ إذا قتل الزنبور؟» فقال: «لا شيء عليه»، فقال الرجل: «أين هذا من كتاب الله؟» فقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}. ثم ذكر إسناداً إلى سيدنا عمر أنه قال: «للمحرم قتل الزنبور». وذكر ابن عبد البر في كتاب العلم له عن عبد الرحمن بن يزيد: أنه رأى مُحرما عليه ثيابه، فقال: «ائتني بآية من كتاب الله تنزع ثيابي، قال: فقرأ عليه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} .[39]
وهذا سعيد بن المسيب يقول: «كُنْتُ أَرْحَلُ الأَيَّامَ وَاللَّيَالِي فِي طَلَبِ الحَدِيثِ الوَاحِدِ» قِيْلَ لِلشَّعْبِيِّ: «مِنْ أَيْنَ لَكَ هَذَا العِلْمِ كُلُّهٌ؟ قَالَ: " بِنَفْيِ الاغْتِمَادِ ، وَالسَّيْرِ فِي البِلاَدِ، وَصَبْرٍ كَصَبْرِ الجَمَادِ ، وَبُكُوْرٍ كَبُكُوْرِ الغُرَابِ»[40].
فلو لم تكن السُنَّةُ شرعًا ودينًا لما حرصوا عليها هذا الحرص ولما تحمَّلوا مشاق السفر في سبيلها ولما أصبحت جزءًا من حياتهم اليومية ولما قال - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ -: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِى وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ»[41].

الوقفة الرابعة : لماذا جمع القرآن ولم تجمع السنة ؟
أجاب عن ذلك العلامة المعلمي بقوله : " وبين القرآن والسنة فرق من وجوه: وبيان أن الله تبارك وتعالى تكفل بحفظ الشريعة مما فيه الكتاب والسنة كما مر ص 20-21، ومع ذلك كلف الأمة القيام بما تيسر لها من الحفظ، ولما كان القرآن مقصوداً حفظ لفظه ومعناه، وفي ضياع لفظة واحدة منه فوات مقصود ديني، وهو مقدار محضور يسهل على الصحابة حفظه في الصدور وكتابته في الجملة كلفوا بحفظه بالطريقتين، وبذلك جرى العمل في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فتوفاه الله تبارك وتعالى والقرآن كله محفوظ في الصدور مفرقا، إلا أن معظمه عند جماعة معروفين، وإنما حفظه جميعه بضعة أشخاص، ومحفوظ كله بالكتابة مفرقاً في القطع التي بأيدي الناس كما مر ص20. فلما استحر القتل بالقراء في اليمامة وخشي أن يستحر بهم في كل موطن ومن شأن ذلك مع صرف النظر عن حفظ الله تعالى أن يؤدي إلى نقص في الطريقة الأولى. رأى الصحابة أنهم إذا تركوا تلك القطع كما هي مفرقة بأيدي الناس كان من شأن ذلك احتمال أن يتلف بعضها فيقع النقص في الطريقة الثانية أيضاً. ورأوا أنه يمكنهم الاحتياط للطريقة الثانية بجمع تلك القطع وكتابة القرآن كله في صحف تحفظ عند الخليفة، وإذ كان ذلك ممكنا بدون مشقة شديدة، وهو من قبيل الكتابة التي ثبت الأمر بها ولا مفسدة البتة، علموا أنه من جماعة ما كلفوا به، فوفقهم الله تعالى للقيام بهذا
أما السنة فالمقصود منها معانيها، وفوات جملة من الأحاديث لا يتحقق به فوات مقصود ديني، إذ قد يكون في القرآن وفيما بقى من الأحاديث ما يفيد معاني الجملة التي فاتت. وهي مع ذلك/ منتشرة لا تتيسر كتابتها كما تقدم ص21 فاكتفى النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة بحفظها في الصدور كما تيسر بأ، يحفظ كل واحد ما وقف عليه ثم يبلغه عند الحاجة ولم يأمرهم بكتابتها، ولم يمكن حفظ معظمها مقصوراً على القرآن بل كا جماعة ليسوا من القراء عندهم من السنة أكثر مما عند بعض القراء ، فالدلائل والقرائن التي فهم منها الصحابة أن عليهم أن يصنعوا ما صنعوا في جمع القرآن لم يتوفر لهم مثلها ولا ما يقاربها لكي يفهموا منه أن عليهم أن يجمعواالسنة. على أنهم كانوا إذا فكروا في جمعها بدا لهم احتمال اشتماله على مفسدة كما مر ص30، وكذلك كان فيه تفويت حكم ومصالح عظيمة (راجع ص21-22) . وتوقفهم عن الجمع لما تقدم لا يعني عدم العناية بالأحاديث، فقد ثبت بالتواتر تدينهم وانقيادهم لها وبحثهم عنها كما تقدم في مواضعه، ولكنهم كانوا يؤمنون بتكفل الله تعالى بحفظها ويكرهون أن يعملوا من قبلهم غير ما وضح لهم أنه مصلحة محضة، (راجع ص30) ، ويعلمون أنه سيأتي زمان تتوفر فيه دواعي الجمع وتزول الموانع عنه، وقد رأوا بشائر ذلك من انتشار الإسلام وشدة إقبال الناس على من تلقى العلم وحفظه والعمل به، وقد أتم الله ذلك كما اقتضه حكمته."[42]
قال المعترض : ومن الأعذار الغريبة جدا، والخطيرة جدا، والتي يستدل بها هؤلاء لتفسير منع الرسول لكتابة كلامه ...
والجواب على ما ذكره من إعتراضات تم الجواب عنه آنفا في الوقفة الثانية ، فانظره .



عب الحميد بن محمد المير



[1]  نفس المصدر ص 25
[2] القرآن وكفى، أحمد صبحي منصور: ص 75. 
[3] مسائل الإمام أحمد، أحمد بن حنبل(رواية ابنه صالح): 2/ 267.
التفنيد ص  26
[4]  ص 25
[5] السنة قبل التدوين 303-309  و راجع كذلك : علوم الحديث و مصطلحه للعلامة صبحي الصالح رحمه الله ص 17 و ما بعدها .
[6] شرح السنة 1/295، النهاية 4/148، فتح المغيث 2/162.
[7] انظر القراءات في تفسير ابن كثير /433.
[8] كتابة الحديث بين النهي والإذن ص 58
[9] مقال سابق للشيخ حاتم العوني
[10] علوم الحديث ومصطلحه (1/ 24)
نثبت تعليقات الشيخ صبحي كما هي لنفاستها !

[11] الأية  44 من سورة النحل
السُنَّة في مواجهة شُبُهات الاستشراق (ضمن بحوث المؤتمر العالمي الثالث للسيرة والسُنَّة النبوية)
أحمد أنور سيد أحمد الجندي .المكتبة العصرية، صيدا - بيروت.
الطبعة الأولى: 1401 هـ - 1981 م ص 6-7
[12]  ص 7
[13]  ص 25
[14]  سورة المائدة: 67.
[15] سورة النحل: 44.
[16] سورة النحل: 64.
[17] سورة الأنفال: 20.
[18] سورة الحشر: 7.
[19] حديث صحيح رواه احمد (2/ 377)، وأبو داود (كتاب السنة باب لزوم السنة - 5/ 10)، والترمذي (كتاب العلم - باب ما نهي عنه أن يقال عند حديث النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم 5/ 37) وقال: حسن صحيح، وابن ماجة (المقدمة - باب تعظيم حديث رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم- 1/ 6) وغيرهم.
[20] حديث صحيح رواه الحاكم (1/ 93)، وعنه البيهقي (10/ 114)، ومالك (2/ 899) بلاغًا. صحيح الجامع (3/ 39)، والصحيحة (4/ 361).
[21] سورة الحجر: 9.
[22] سورة المائدة: 3.
[23] سورة النساء: 171.
[24] سورة النور: 62.
[25] الرسالة: (ص 73 - 75).

[26] إرشاد الفحول: (ص 29).
[27]  الحديث رواه البخاري: 1/ 155.
[28] رواه مسلم: (2/ 943) و " جامع بيان العلم وفضله " لابن عبد البر: (2/ 190).

[29]  رواه البخاري - " فتح الباري ": (1/ 185، 197) و (3/ 574) والإمام مسلم في الحج: (1/ 85 - 86) والترمذي: (3/ 537) والدارمي: (1/ 394) والإمام أحمد في " المسند ": (4/ 21، 32) و (5/ 4، 37، 39، 40، 45، 49، 72، 342، 366، 411) و (6/ 385، 456).
[30] رواه الخطيب في الجامع لأخلاق الراوي، انظر أصول الحديث لمحمد عجاج الخطيب
[31]  رواه الدارمي في " سُننه ": 1/ 82.
[32] رواه أبو داود في " سُننه ": (5/ 12) والترمذي في كتاب العلم: (7/ 424) وقال: حسن، وابن ماجه: (1/ 16) والدارمي: (1/ 117) بلفظ: «لَيُوشِكَنَّ الرَّجُلُ» والإمام أحمد في " مسنده ": (2/ 368) و (4/ 131، 132).
[33] رواه ابن ماجه عن معد يكرب: (1/ 6) وأبو داود بإسناد حسن.

[34] " مفتاح الجنة ": ص 5، 6.
[35] [الحج: 29].
[36] [الحشر: 7].
[37] " مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسُنَّة للسيوطي": ص 6.
[38]  [سورة الحشر، الآية: 7].
[39] : دفاع عن السُنَّة ورد شبه المُسْتَشْرِقِينَ والكتاب المعاصرين ص 17-18
المؤلف: محمد بن محمد بن سويلم أبو شُهبة (المتوفى: 1403هـ)
الناشر: مجمع البحوث الإسلامية - القاهرة
الطبعة: الثانية، 1406 هـ - 1985 م.
[40] سير أعلام النبلاء ": 4/ 300]
[41] رواه أبو داود: 5/ 13. وابن ماجه: 1/ 16. والدارمي: 1/ 43. وأحمد: 4/ 126، 127. كلهم عن العرباض بن سارية ورواه الترمذي: 7/ 438. وقال: حسن صحيح.
[42] الأنوار الكاشفة ص 239-240


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أرشيف المدونة

آخر التعليقات

عن الموقع

موقع الإمام البخاري صرح علمي شامل .. نحاول من خلاله جمع شتات ما كتب و صنف حول البخاري و صحيحه ، من شروحات و طبعات و تراجم ، و أطروحات علمية و أكاديمية ، مقالات علمية .. كما يحتوي على مكتبة سمعية و بصرية مفيدة لطلاب العلم .