هل أثبت علماء الحديث العصمة للبخاري ؟





هل أثبت علماء الحديث العصمة للبخاري ؟

هل البخاري معصوم ؟

 إشتدت حرب أفراخ الحداثة و العلمانية على السنة النبوية ، و لإسقاطها لابد أن يشككوا الناس في مصدرها ، فشنوا حملة شرسة قذرة على الصحيحين – خاصة صحيح الامام البخاري - بدعوى احتوائه على أحاديث و روايات خرافية و أساطير مكذوبة على النبي ، و تسيء الى الاسلام و النبي و تخالف العقل و العلم .. و إذا جوبه العلماني بأنه ولج الى ميدان ليس ميدانه و إقتحم علما ليس من أهله و حذاقه ، أجاب بلازمته المشهورة ، و هل البخاري معصوم ؟ ألم يضعف الدارقطني و غيره أحاديث في الصحيح ، وهم رجال و نحن رجال  و أن له أسوة بمن سبق !

فنقول : شتان بين الثرى و الثريا ، فانتقادات أمثال الدارقطني و غيره إنتقادات علمية في حدود ضوابط البحث العلمي ووفق قواعد المحدثين ، أما هذا التضعيف الوافد فلا أصل له في مناهج البحوث الصحيحة ، و لا يعرفه الدارقطني و لا غيره من أئمة الحديث . فللحديث آليات و مناهج و ضوابط يعرفها أهله ، و يفقهها من أفنى عمره في تحصيله و تفهمه .[1]
ثم إنه لم يقل أحد من علماء الأمة – لا قديما و لا حديثا – أن البخاري معصوم عن الخطأ  ، و لم يرفعوه لمرتبة الأنبياء ، بل الكل مجمع على أنه بشر يصيب و يخطئ و أن كتابه من أصح الكتب الحديثية . و هذا الحكم لم يطلقه البخاري على نفسه بل وسمه به كبار علماء الأمة و عباقرة محققيها ، على مر القرون ، و هذا الإجماع ليس ضربا من الهوى و العبث بل حصيلة جهود جبارة من التحقيق و الدراسة العلمية للصحيح : تحقيقا لرواياته و أسانيده و مدى التزامه بشروطه التي ألزم بها نفسه ،و تنقيبا عن رواته و إخضاعهم لعلم الجرح و التعديل ، و دراسة لمتونه من حيث انتفاء الشذوذ و العلة و غير ذلك من شروط قبول الرواية أو رفضها .

معنى التقديس الذي يتهم به القرآنيون العلماء  ؟ يقول أحمد صبحي منصور :
التقديس يعنى أن تحب شخصا الى درجة التأليه . ومن ملامح تأليه شخص ما أن تعتقد عصمته من الخطأ ،بأن تتهيب نقده وتعتبر الهجوم عليه كفرا وجريمة دينية ، وتحاول تبرير جرائمه ، وتعتقد أنه جزء من دينك وإيمانك ، ولا تشعر بأنك تساويه فى الانسانية والبشرية ، بل هو يسمو عنك ومختلف عنك ، وأن له مكانة خاصة عند الله جل وعلا بحيث أنك مهما فعلت من الصالحات فلن تكون فى مستواه . [2]
فنحن نتحدى الطاعن أن يأتينا بدليل واضح لا لبس فيه من كلام العلماء أو كتاباتهم فيها ما افتراه هذا الطاعن ! و لن يستطيع الى ذلك سبيلا !

لكن هل كون البخاري بشر يلزم وجود أخطاء في أي عمل يقوم به ؟
أجاب عن هذا السؤال الدكتور الشريف حاتم العوني. قال -حفظه الله - :[3]
والجواب الأوّل: أن قوله: "إن عمل الإنسان لا يمكن أن يكون متقنًا خالياً من الأخطاء"، لا أدري كيف أفهمه؟ لأن الإنسان قد يتقن عملاً ما إتقاناً لا ترى فيه خطأً، ولا أظن السائل سيفقد كثيراً جدًّا من الأعمال البشرية حوله، ومن الصنائع المتقنة غاية الإتقان، وتؤدّي الغرض منها على صورة بالغة الدقّة. فكيف ينكر أن يكون عملُ البخاري متقناً؟
أظن السائل قد استقرّ في ذهنه أن الإنسان عمومًا غير معصوم، فظنّ أن عدم عصمة الإنسان يستلزم أن يخطئ في كل عمل! وهذا غير صحيح؛ فإن غير المعصوم لا يكون غير معصوم في كل عمل، بمعنى أنه لن يخطئ في كل عمل، بل شأن الإنسان أن يصيب وأن يخطئ. فما الذي يمنع (عقلاً) أن يكون البخاري قد أصاب في صحيحه ولم يخطئ فيه، وإن كان يخطئ في مؤلفاته وأعماله الأخرى؟!!
إذن فمسألة العصمة لا علاقة لها بإتقان البخاري لصحيحه.
الجواب الثاني: ولو افترضنا أنّ العمل البشري كلّه لابدّ أن يكون فيه خطأ، وأنه لا يصحُّ العمل البشريّ مطلقًا= فإن للخطأ وجوهاً عديدةً. فقد يكون كل ما في كتاب البخاري صحيحًا ثابتًا عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- لكنّ خطأ البخاري الذي سيلزم عملَه البشري قد يكون في ترتيب كتابه، أو في فهمه –للأحاديث- الذي ذكره في عناوين أبوابه.
فما الذي يُوجب أن يكون خطأ البخاري الذي سلّمنا (تنزُّلاً) بوجوب وقوعه في تصحيحه، دون ترتيبه أو تبويبه؟!! أو لا يكفي أن يقع الخطأ في الترتيب أو التبويب ليثبت وَصْفُ البشريّة على عمل البخاري؟!!
الجواب الثالث: من قال للسائل إن أهل السنّة يعتقدون أن كل أحاديث صحيح البخاري صحيحة؟ فهذا أحد العلماء الكبار في علوم السنة، وهو أبو عَمرو ابن الصلاح (ت 643هـ = 1245م)، يقول في كتابه (علوم الحديث): "إن ما انفرد به البخاري ومسلم مُنْدرجٌ في قبيل ما يُقطع بصحّته، لتلقّي الأمّة كل واحد من كتابيهما بالقبول، على الوجه الذي فصّلناه من حالهما فيما سبق، سوى أحرف يسيرة تكلّم عليها بعضُ أهل النقد الحفّاظ، كالدارقطني وغيره، وهي معروفة عند أهل هذا الشأن". علوم الحديث لابن الصلاح (29).

(  هل انتقاد النقاد لبعض أحاديث الصحيح يبيح لغيرهم استباحة أحاديث الصحيح بالطع  )
ومعنى هذا الكلام: أن غالب وعامة ما في صحيح البخاري صحيحٌ مقطوعٌ به، لا من جهة أنه جُهْدُ البخاري وحده، ولكن لأن علماء السنّة على مرّ العصور قد درسوا هذا الكتاب أعمق دراسة، وفحصوا أحاديثه أشد الفحص، فخرجوا بتأييد البخاري في أكثر الكتاب والأعمّ الأغلب منه. ومن دلائل إنصافهم وموضوعيتهم في تلك الدراسة وذلك الفحص الذي سبق ذكره أنهم خالفوا البخاري في بعض الأحاديث، كما فعل الإمام الدارقطني (ت 385هـ =995م)، حيث ألّف كتاباً فيما ينتقده على الصحيحين، وهو كتاب (التتبّع)، وهو كتاب مطبوع مشهور.
لكنيّ أنبِّه السائل إلى أنّ مخالفة بعض كبار النقّاد للبخاري في عدد قليل جدًّا من أحاديث كتابه، لا يبيح لمن لم يتعمّق في علم الحديث تعمُّق أولئك النقِّاد أن ينتقد أحاديث أخرى لم ينتقدوها، ولا يجعل تضعيف أحاديث البخاري حقًّا مُشَاعًا لكل من أحب ذلك، بل لا شك أنه ليس من حقِّ غير العالم بالسنّة أن يُدخل نفسه في مناقشة الحديث الذي وقع فيه الاختلاف بين البخاري والإمام الآخر الذي خالفه؛ لأن هذه المناقشة تستلزم أن يُنصِّب نَفْسَه حَكَمًا بين علماء وأئمة السنّة، ومَنْ هو الذي يَتَصَوّر أن هذه المنزلة مُمكنةٌ لكل أحد؟!
فانتقاد الدارقطني (وهو النَّقَّادُ الكبير) لقليل من أحاديث البخاري لا يجيزُ لمن لم يبلغ نحواً من منزلته في العلم بالسنة أن يفعل فعله؛ وذلك لسببين كبيرين:
الأول: أن كل علم من العلوم له أعماق سحيقةٌ وقمِمٌ رفيعة، لا يغوص ولا يسمو إليها إلا كبار علماء ذلك العلم، فإن خاض فيها غيرهم أتى بالجهالات والعجائب؛ بسبب أنه يتكلم فيما يجهل، والكلام بجهل لا يقبله عاقل لنفسه ولا من غيره.
ومَثَلُ من يحتجّ بنقد الدارقطني وأمثاله من النقَّاد لبعض أحاديث البخاري ليمارس هو هذا النقد، مع عدم بلوغه قريبًا من منزلتهم في علمهم الذي مارسوه= مَثَلُ من يريد أن يُجْري عمليّةً جراحيّةً خطيرة لأحد الناس؛ بحجّة أن الطبيب العالمي فلان قد أجرى هذه العمليّة! هل يحق لأكبر مهندس أو أجل فيزيائي أن يفعل ذلك؟! بل هل يحق لطبيب غير جرّاح أن يفعل ذلك؟! بل هل يحق لجرّاح لا يصل إلى قريب من مهارة ذلك الطبيب العالمي أن يمارس عمليّةً تفوق مهاراته؟!!! هذه حقيقةُ ما يُريدُهُ أولئك القوم، الذين يُبيحون لأنفسهم الخوض في علوم السنة، بل في أعمق علوم السنة!!!
الثاني: أن إجماع علماء الأمة على تلقِّي الصحيحين بالقبول لا يمكن أن لا يكون له أثر، ولا يصحّ أن يتساوى كتابٌ لقي تلك العناية (كصحيح البخاري وصحيح مسلم) وكتابٌ آخر لم يَلْقَها، ولا يمكن أن يقبل منصفٌ أن يجعل المُتَلَقّى بالقبول من علماء الأمّة كالذي لم يَنَلْ هذه المكانة السامية. ونَقْدُ بعض أحاديث الصحيحين لا يُلْغي تلك الحقوق؛ لأنه ما من كتاب (حاشا كتاب الله) إلا وقد وُجِّه إليه نقد. 

فماذا يمتاز به الكتاب الذي وُجه إلى قدر يسير منه نقد، مع اتّفاق الأمة على صحّة غير هذا القَدْر اليسير المُنْتَقَد؟ 
الجواب هو ما ذكره ابن الصلاح أن كل ما لم ينتقده الأئمةُ الحفّاظ الذين كانت لديهم أهليّة الخوض في أعمق مسائل علم الحديث، أنه داخلٌ ضمن إجماع الأمة على صحّته، وأن نجاته من نقد الناقدين يدل على قبوله عند هؤلاء الناقدين؛ ولذلك كان كل مالم ينتقده أولئك النقَّاد من أحاديث الصحيحين مفيدًا لليقين بصحّته عند علماء السنة، كما سبق عن ابن الصلاح. فما لم يُنْتَقد من أحاديثهما ليس فقط صحيحًا، ولا خرج عن أن يحق لغير كبار النقَّاد أن ينتقدوه فَحَسْب، بل تجاوز ذلك: إلى أن يكون مقطوعًا بصحّته مجزومًا بثُبوته عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بدليل ذلك التلقّي بالقبول من علماء السنة لهذين الكتابين، بمن فيهم أولئك العلماء الذين انتقدوا، ممّا يدل على أن ذلك التلقّي لم يكن تقليدًا من علماء الأمة للبخاري ومسلم، بل هو موافقةٌ لصحّة النتائج التي توصَّلا إليها بناءً على النظر في الأدلّة والبراهين التي أوصلتهم إلى تلك النتائج، ولذلك خالف أولئك العلماء في قليل من تلك الأحاديث، وبقي الجزء الأكبر من أحاديث الصحيحين عندهم صحيحًا لا يخالفون في ثبوت وصف الصحّة له.
وبهذا يصبح انتقادُ أولئك النقّاد لبعض أحاديث الصحيحين سببًا لمنع من لم يصل إلى درجتهم في العلم أن يلج هذه الساحة؛ وصار دليلاً ضِدّ هؤلاء المتجرئين!!
لكني أعود وأذكر السائل أنه نسب إلى علماء السنة أنهم لم ينتقدوا صحيح البخاري، وكأنّهم اعتقدوا فيه العصمة، مع أنّهم قد مارسوا النقد العلمي لصحيح البخاري، وخالفوه في أحاديث قليلة، ولهم في ذلك مؤلفات شهيرة، وهي مؤلفات طُبع عددٌ منها، ويعرفها عامة المشتغلين بالسنة أدنى اشتغال.
وهذا خطأ ثانٍ وقع فيه السائل، يدل على بعده الكبير عن علوم السنّة، ممّا يدلّه على أنه عليه أن يُنْصِفَ هذا العلمَ من نفسه، فلا يخوض فيما لا يعلم!




[1] الاحايث المنتقدة في الصحيحين لأحمد حفو ص 13
[2] http://www.ahl-alquran.com/arabic/show_fatwa.php?main_id=2052
[3] فتوى بعنوان الجواب عن طعون في صحيح البخاري .موقع الاسلام اليوم http://www.islamtoday.net

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أرشيف المدونة

آخر التعليقات

عن الموقع

موقع الإمام البخاري صرح علمي شامل .. نحاول من خلاله جمع شتات ما كتب و صنف حول البخاري و صحيحه ، من شروحات و طبعات و تراجم ، و أطروحات علمية و أكاديمية ، مقالات علمية .. كما يحتوي على مكتبة سمعية و بصرية مفيدة لطلاب العلم .